لا أخفي سرا بالقول انني اختلف مع حركة حماس منذ التأسيس، اختلفت مع ارتباطها الإخواني، وترسيم الصراع ضد الاحتلال الصهيوني على قاعدة دينية (لست مع تديين السياسة)، ولاحقاً اختلفت مع حماس "نظام الحكم" الذي اختار محاور ينتمي إليها، محاور تستغل القضية الفلسطينية لتمرير سياسات تُبعد فلسطين عن مرمى التحرير أجيالاً وأزماناً.
اختلفت مع حماس كنظام حكم، حيث قدمت أسوأ نموذج للحكم في قطاع غزة، دفع الغزيون ثمن تفاؤلهم به، واعتقادهم أن "الحكام الجدد" قد يكونوا أكثر نزاهة وعدلا، وقدرة على تحسس آلام الناس عمن سبقهم!
أما المقاومة فقضية أخرى ليست مرتبطة بحماس "نظام الحكم"، المقاومة أوسع كثيراً وأقدم كثيرا من تنظيم فشل في الحكم، في حين أن ذراعه المقاوم لم ينهزم أمام الضربات المتوالية حتى لو لم ينتصر!
لا أجد ضيراً في انتقاد حماس، بل هو واجب، طالما أنها اختارت المسؤولية واختارت أن تحكم، ومن حق الصغير قبل الكبير أن يرفض طريقة ادارتها للقطاع، ومراهناتها على محاور ومتغيرات إقليمية وعالمية، تظهر بعد أن ندفع الثمن- كشعب- أنها خيارات خاطئة.
التمييز بين حماس نظام الحكم وحماس المقاومة، هو بالضبط كالتمييز بين حركة فتح السلطة، وحركة فتح- كما يحلو للبعض تسميتها "الطلقة الأولى"-، حركة فتح سبقت حركة حماس في تقديم نموذج سلطة سلطوي سيء، واستمرت الدعوات وستستمر بفصل الحركة عن السلطة، حتى لو كانت السلطة مشروع الحركة، لماذا تتقبل حركة فتح هذه الدعوات برحابة صدر حتى لو لم تحاول تطبيقها، في حين أن تقديمها لحركة حماس، يضع الداعي في زاوية التخوين والتكفير؟ - إنها مساحة الاتساع والقبول بالاختلاف ولو شكلياً!
برأيي الشيء الوحيد الإيجابي لتجربة "حماس السيئة في الحكم"، هو تحرير الناس من سطوة "قداسة الحركة" و "الوكالة الإلهية" الممنوحة لها، لأنها أثبتت بكل جدارة أنها لا تختلف عن أي حركة سياسية تسعى للحكم وللكراسي وتخطئ، وتوغل في الخطأ مثلها مثل أي حركة أخرى، بعيدا عن خطاب الدين المقدس، والأيديولوجية الاستخدامية!
اذن لا تستطيع حماس ادعاء احتكار المقاومة، ولا أن اسمها مرادف للمقاومة الفلسطينية، لأن الحركة الوطنية سبقتها بعقود، ولأن المقاومة التي تحولت- لسوء أحوالنا وأحوال العرب- لمرادف للإرهاب، والإرهاب حسب تعبير المؤسسة الصهيونية تم تعريفه بمحددين: الكفاح المسلح قديمه وجديده (بما في ذلك الحجارة)، والتحريض أي الدعوة لمقاطعة إسرائيل، وأي دعوة لمحاسبتها ومساءلتها!
القضية الفلسطينية التي استخدمتها الأنظمة العربية لعقود لقمع الحريات وتكميم الأفواه وتخوين المعارضين، يتم استخدامها مرة أخرى في تصفية الحسابات، وهذه المرة تبدو المحاور العربية المتصارعة حالياً متفقة -وان بدرجات- على تركيع وانهاء حركة حماس، وتقويض حكمها في غزة، والقضاء على قدرتها في العمل والحركة في الضفة، فأين يقف الفلسطيني في ظل هذا الشحن والتحريض، ومع أي طرف يقف في حرب أعلنها العرب على حركة حماس؟
مطلوب من الفلسطيني أن يجيب على الأسئلة التالية ليقرر أين يقف:
أولاً: هل سيخدم تركيع وانهاء حركة حماس "نظام الحكم" القضية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني الهادف لتأبيد إسرائيل كأقوى دولة في الشرق الأوسط؟
وثانياً: هل سيخدم نزع سلاح المقاومة (القسام وغيره من الفصائل المسلحة)، انهاء الاحتلال كاملاً على حدود ال1967، بالحد الأدنى الذي توافقت عليه الفصائل الفلسطينية؟
وثالثاً: هل من ضمانات أن نزع سلاح المقاومة وتركيع حماس سينهي حصار القطاع، وسينهي الاستيطان في الضفة، ويحسن موقع المفاوض الفلسطيني على طاولة مفاوضات- قد تأتي وقد لا تأتي-؟
الإجابة على الأسئلة الثلاث – برأيي- هي لا بحروف كبيرة، فجميعنا يستحضر تجربة منظمة التحرير، وتجربة ياسر عرفات في تحسين موقعه التفاوضي بعد فشل كامب ديفيد، عرفات لم يقدم تنازلات، بل عاد للمربع الأول (الشارع، ورفع كلفة الاحتلال) فتم اغتياله. اذن يصير السؤال، كيف نرفع كلفة الاحتلال على الاحتلال؟ وكيف نحمي القضية الفلسطينية من وصمها بالإرهاب واستخدامها في حرب المحاور؟ إجابة هذين السؤالين ليس مسؤولية حماس وحدها بل مسؤولية الكل الفلسطيني.
المعركة الآن، لا تحتمل البحث عن انتصارات وهمية، ولا التعنت والتمترس خلف محور أو التذاكي بتبديل المحاور، نحن بحاجة لتجاوز هذه المعركة، فقط تجاوزها - بأقل خسائر ممكنة-.
قد يبدو الثمن صعباً ولكنه أقل كلفة من نكبة ونكسة، مطلوب من حماس أن تتخلى عن الحكم وليس المقاومة، وعليه مطلوب منها تقديم إجابة واضحة وتفصيلية ل(مجاورة المقاومة والسلطة)، لأنها تعبير مبهم، نتفق عليه بشكل شعاراتي ولكن صار الأوان لتحديده وتفسيره. كيف يمكن أن تعود السلطة للقطاع، دون المس بسلاح المقاومة ولا حقها في تطوير قدراتها؟
وبالمقابل، مطلوب من منظمة التحرير (رئيسا ولجنة تنفيذية ومجلس مركزي) أن تقدم تصورها، حول التصدي لمحاولات شيطنة حركة فلسطينية وتحويلها لمرادف للارهاب، وما هي خطتها لاستلام القطاع ودمجه في المنظمة وفي السلطة دون المساس بالمقاومة؟ وكيف سيتم التصدي للاحتلال ورفع كلفته، في ظل الانتصارات التي يسجلها الاحتلال في تجريم المقاطعة دولياً، وتجريم تاريخنا (دلال المغربي نموذجاً)، وربط دعوات مساءلة إسرائيل بالتحريض، وانتصاراتها لمتوالية في الأمم المتحدة (البيت الضعيف الذي احتمينا به لعقود)!
من السهل أن ننتصر على العرب والعجم بتقديم تنازلات -ولو اعتبرها البعض مؤلمة- داخلية لصالح انقاذ القضية وحماية الناس، وقد تكون أصعب مهمة آنية، هي التزام الصمت في حرب المحاور، دون التنازل عن تفنيد الاتهامات والرد عليها، بموقف فلسطيني موحد وليس عبر تغريد فصائلي منفرد.
حماس لن تموت غداً، ومنظمة التحرير ستبقى البيت الجامع، إذن هي فرصة ذهبية لمنظمة التحرير في نفض الغبار وإعادة احياء ذاتها ووظيفتها الأولى في الدفاع عن الشعب الفلسطيني وحماية مشروعه الوطني وقراره المستقل، فرصة تبدأ بفتح البيت لحركة حماس لا عارية ولا راكعة، بل شريكة وطنية في معركة التحرير والاستقلال.